الشهيد القائد
سعيد صيام
الرجل الهادئ وصاحب المهمّات الصعبة
خانيونس – تقرير خاص
بعيونه كان يرقبهم حتى آخر لحظةٍ، ينظر لهم وهم يختبئون في موقعهم... صوّب عينيه نحوهم وهم صوّبوا مدفعهم نحوه... أطلقوا الرصاصة نحو عنقه فارتقى لله... وسقطوا بغدرهم وجبنهم... إنّه القائد القساميّ سعيد عيسى صيام، الذي ترجّل أخيراً عن صهوة جواده.
المولد والنشأة:
وُلِد الشهيد سعيد عيسى صيام (32عاماً)، بمخيّم خانيونس الغربي في 26/1/1974م، بعد أنْ هُجِّرت عائلته المتديّنة الصابرة من بلدة "الجورة" داخل الأراضي المحتلة عام 48.. له ستة أشقاء، وأربع شقيقات، متزوّج وله أربعة أبناء: أنس، هديل، هبة، وأسماء، وزوجته حامل في شهرها الأول.
انتمى صيام إلى حركة حماس منذ تأسيسها وانطلاقتها الأولى في العام 1987، وعمِلَ ضمن صفوف الحركة في جهاز الأحداث، اعتقله الجيش الصهيوني على خلفيّتها في 7/12/1991 وقضى خلالها أربعة أشهر في سجن النقب "كتسعوت"، وخرج بعدها ليلتحق مباشرة بجهاز الطوارئ التابع للحركة.
اعتقاله:
واعتقل الصهاينة الشهيد صيام للمرة الثانية في 1/3/1993 وحُكِم عليه بالسجن لمدة ستة أعوام لم يقضِ منها سوى عشرين شهراً وتمّ الإفراج عنه أواخر العام 94 مع جملة إفراجاتٍ عامّة لمئات الأسرى، وخلال هذه الفترة كان قد بايع حركة الإخوان المسلمين، وظلّ مخلِصاً لعمله في مجال الدعوة حتى أصبح نقيباً في جماعة الإخوان المسلمين.
عمل على تربية وتوعية العشرات من جيل الإسلام الناشئ، وصمّم المجاهد صيام على مواصلة عمله الجهاديّ وتطوير ذاته العسكرية بعد أنْ التحق بمجموعات كتائب الشهيد عز الدين القسام إلى جانب أنّه يعمل ضمن قوات الأمن الفلسطينيّ، وعمل على تطوير قذائف الهاون وتصنيعها، رغم تعرّضه لثلاث إصاباتٍ متفاوتة أثناء عمليات التصنيع والتطوير المختلفة، حيث كان يتميّز شهيدنا بمهنيّته العالية وحِرَفِه المتعدّدة في مجالاتٍ عدة، بالإضافة إلى هوايته في تربية الطيور والعصافير.
أول من قصف بالهاون..
وكان "أبو أنس" أوّل من قام بقصف المستوطنات بقذائف الهاون هو والشهيد حافظ صبح، واعتُبِر قائداً ميدانياً لمعظم المجموعات القسامية في منطقة حي "الأمل" التي شكّلها وقادها أثناء عمليات الاجتياح والتوغّلات المتكرّرة، وكان مسؤولاً عن عملياتٍ متعدّدة من زرع وتفجير عبوات وقصف للهاون وصواريخ القسام وتجهيز استشهاديين، بالإضافة إلى أنّه كان يُشرِف على معسكرين لتدريب وتأهيل المجاهدين الذي التحقوا في صفوف الكتائب، الأمر الذي جعله يوصَف "برجل جميع المهمّات".
عجز الجيش الصهيوني عن معرفة العقلية التي تغلبت على أمنه وحصونه في مستوطنة "بات سديه" في شهر رمضان قبل عامين، وذلك عندما استطاع الاستشهاديّ إسماعيل بريص من تنفيذ عمليةٍ نوعية قُتِل خلالها جنديان صهيونيّان وأصيب ثلاثة آخرون حسب اعتراف العدو بالخسائر والعقلية الفذّة التي تغلّبت على أمنه الواسع، كما أنّه قام بتشكيل وحدة الرصد والإسناد لعمليّة الاستشهاديّ مهند اللحام الذي اقتحم مستوطنة "جاني طال" وجندل الصهاينة فيها.
إشرافٌ أمنيّ:
أشرف الشهيد صيام أمنياً على عملية حفر النفق تحت موقع محفوظة "أورحان"، وكان ضمن الوحدة التي قامت بعملية التفجير التي دمّرت الموقع بالكامل. تعرّض الشهيد صيام إلى محاولة اغتيالٍ فاشلةٍ قبل عدّة أشهر من قِبَل طائرات الاستطلاع الصهيونية في منطقة "عبسان" الكبيرة هو واثنين من رفاقه عندما أخطأت الطائرة هدفها في المرة الأولى، وبدا حينها التصميم على اغتياله حيث استُدعِيَت طائرةٌ أخرى تعزيزيّة لمطاردته ومتابعته في منطقةٍ خالية وإطلاق صاروخٍ ثانٍ وثالثٍ عليه إلا أنّ عناية الله حالت دون إصابته، واستطاع بفضل الله تضليلها والتمويه بلباسٍ متخفٍّ والخروج من المنطقة.
الرجل الهادئ:
لم يكنْ الشهيد "أبو انس" يحبّ عرَضَ هذه الدنيا وزيفها، كان يسعى لنيل الدرجة العالية في الفردوس الأعلى، فكان يبحث عن الطريقة السريعة لنيل الشهادة والفوز بالجنة، فعرض على إخوانه في قيادة كتائب القسام أنْ يجهّز نفسه لتنفيذ عمليةٍ استشهادية، وأنْ يكون نصيبه كباقي الاستشهاديين الذين جهّزهم، ولكنّهم رفضوا عرضه ذلك وتصميمه القويّ، معلّلين ذلك بأنّهم يحتاجونه إلى مهمّاته الكبيرة الموكَلة إليه في القيادة والتصنيع والتدريب، وكيف لا وهو "رجل جميع المهمّات".
وصفه أصدقاؤه وجيرانه بالرجل الهادئ الرزين الذي لا يصُدّ أحداً في تقديم الخدمة والمساعدة في أصعب وأحلك الظروف، فلم يكنْ يلهيه العمل العسكريّ الكبير عن التواصل الاجتماعي مع أسرته وأصدقائه وجيرانه الذين أحبّوه كثيراً، وعندما كانوا يفتقدونه يعرفون أنّه في مهمّةٍ جهادية ومنشغلٌ عنهم لفترة انقضائها فقط، رغم أنّه كان سرّياً للغاية ولا يصرّح عند سؤاله عن عمله الجهاديّ بأيّ شيء.
يقول صديقه الصحافي أيمن سلامة: "لم أكنْ أتوقّع أنّني في يومٍ من الأيام سأفقد صديق عمري الذي لازمني أكثر من عشرين عاماً، لم أجدْ ما يُنفّرني منه، فقد كان جامعاً لكافّة الصفات الحسنة التي يفتقدها الكثير من الشباب هذه الأيام، وفياً لأصحابه جميعاً، صريحاً في معاملاته، حنوناً على أبنائه، حيث إنّنا كنّا نميّزه في المسجد بمنديل إحدى بناته اللاتي كان يصطحبهن معه للصلاة حتى يربّيهن التربية الإسلامية الصحيحة".
ويذكر أيمن أحد مواقف الفداء للشهيد وذلك عندما تعرّض لحادثٍ مفاجئٍ أدّى إلى انقلاب دراجته التي كان يركبها هو وابنته "هبة"، وبسرعة البرق الخاطف قفز من فوق الدراجة على الأرض كي يتلقّف "هبة" قبل أنْ تقع وتسقط على الأرض، أدّى ذلك إلى إصابته إصابةً بالغة شوّه على إثرها وجهه وخُيِّطَ بـ13 غرزة.
ويضيف زوج أخته أسامة السباخي أنّه كان حريصاً على العمل التطوعيّ وإيثار الناس، ومحافظاً بشكلٍ كبيرٍ على عيادة رحمه وأقاربه، حيث شرح ظروف استشهاد "أبو أنس" قائلاً إنّه: "لم يبِتْ ليلته في البيت تحسّباً للاجتياح ومباغتة العدو، وجاء في صبيحة اليوم الثاني ليأخذ ابنه "أنس" إلى الشارع كي يعرّضه لأشعة الشمس عملاً باستشارة الأطباء حيث إنّ ابنه يعاني من مرض الكساح، وكان حينها ينوي شراء بعض الحاجيات لبناته الأخريات، ولم نعلم أنّ آخر عهد الشهيد في هذه الدنيا أنْ يحضن أبناءه الذين فقدوه ويسألون أمّهم في كلّ ساعة (لماذا تأخّر أبونا يا أمّي؟)".
ويضيف: "كان موعده مع الشهادة فعلاً عندما أطلق القنّاص الحاقد النار عليه من الموقع العسكري الصهيوني المقابل لمنزله، والذي طالما كان يرصده لساعة الوداع الأخير صبيحة يوم الأحد الموافق 17/7/2005م".
فقدان الرجل الجسور..
كان وقع الخبر على جميع من عرفه ليس مفاجئاً بقدر ما كان حزيناً على فراق ذلك الرجل الجسور، والعقل المدبّر للعمليات النوعية، وافتقادٍ لبطولة القائد الذي كان يتصدّى للعدو ودباباته.
بكاه أصدقاؤه وجيرانه، ولكن الدموع سرعان ما أصبحت دموع فرحٍ عندما رأوا ابتسامته وهو مسجّى وكأنّه فرحٌ بما نال وباختيار الله له، وكذلك عندما أثبت رجال القسام بصواريخهم وقذائفهم الانتقامية لدمائه التي صبّت غضباً على المستوطنات وإرهابيّيها المستوطنين الذين اعترفوا بالخسائر الفادحة والإصابات الخطيرة في صفوف جنودهم، حينها علِمَ الجميع أنّ القائد أثمر زرعه وتدريبه وخلف من بعده رجالاً أوفياء يحملون الأمانة ويسيرون على نفس الدرب الذي استشهد من أجله شهيدنا "أبو أنس".